الاعتراف الإسرائيلي بصوماليلاند: حين تكشف السياسة الدولية ازدواجية المعايير

في السياسة الدولية، لا تُكافأ المبادئ دائمًا، ولا يُعاقَب الفشل بالضرورة. أحيانًا، يُترك الاستقرار وحيدًا، بينما يُحتفى بالفوضى. وهذا تمامًا ما تعكسه قضية جمهورية صوماليلاند، التي وجدت نفسها، بعد أكثر من ثلاثة عقود من بناء الدولة، مضطرة للبحث عن الاعتراف الدولي خارج الإطار العربي والإسلامي، إلى أن جاء الاعتراف الإسرائيلي كأول اختراق رسمي لهذا الجدار الصلب من التجاهل.

الاعتراف الإسرائيلي بجمهورية صوماليلاند ليس حدثًا معزولًا، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من الصبر السياسي، والعمل المؤسساتي، والاستقلال في القرار. كما أنه كشف بوضوح حجم التناقض في مواقف كثير من الدول التي ترفع شعارات السيادة، بينما تمارس السياسة وفق منطق المصالح فقط.

جمهورية صوماليلاند ليست “كيانًا انفصاليًا”

من الأخطاء المتكررة في الخطاب الإعلامي العربي والدولي وصف جمهورية صوماليلاند بأنها “إقليم انفصالي”. هذا الوصف يتجاهل الحقيقة التاريخية والقانونية.

صوماليلاند كانت دولة مستقلة ذات سيادة في 26 يونيو 1960، ومعترفًا بها دوليًا، قبل أن تنضم طواعية إلى الصومال في الأول من يوليو من العام نفسه. لم يكن الانضمام قسرًا، بل خيارًا سياسيًا قائمًا على حلم الوحدة الصومالية الكبرى.

لكن هذه الوحدة فشلت فشلًا ذريعًا، وتحولت إلى نظام قمعي وحرب أهلية وانهيار شامل للدولة. وعندما أعلنت صوماليلاند استعادة استقلالها عام 1991، لم تكن تنشئ كيانًا جديدًا، بل تعود إلى وضعها القانوني السابق.

من هذا المنطلق، فإن مطالبة صوماليلاند بالاعتراف ليست خروجًا عن الشرعية الدولية، بل تصحيح لمسار تاريخي فشل بالقوة.

اربعة ثلاثون عامًا من الاستقرار بلا مكافأة

منذ عام 1991، بنت جمهورية صوماليلاند دولة فعلية:

  • مؤسسات دستورية
  • نظامًا انتخابيًا تعدديًا
  • تداولًا سلميًا للسلطة
  • أمنًا داخليًا مستقرًا
  • مجتمعًا متماسكًا نسبيًا
    كل ذلك تحقق دون قوات أجنبية، ودون مليارات المساعدات، ودون وصاية دولية.

في المقابل، لا يزال الصومال يعاني من الفوضى، والانقسامات، والتدخلات الخارجية، ومع ذلك يحظى بالدعم الدولي الكامل، والاعتراف، والمساعدات.

هذا الواقع يطرح سؤالًا محرجًا للمجتمع الدولي:
هل الاستقرار والديمقراطية لم يعودا معيارًا للاعتراف؟

الاعتراف الإسرائيلي: قراءة واقعية لا عاطفية

الاعتراف الإسرائيلي بجمهورية صوماليلاند يجب أن يُفهم في سياقه الطبيعي: السياسة الواقعية.

إسرائيل، كأي دولة، تتحرك وفق مصالحها الاستراتيجية، ورأت في صوماليلاند:

  • كيانًا مستقرًا
  • حكومة قادرة على اتخاذ قرار مستقل
  • موقعًا جغرافيًا حساسًا ومهمًا
    هذا الاعتراف لا يحمل بعدًا أخلاقيًا ولا دينيًا، بل هو قرار سياسي بحت. والمفارقة أن دولًا عربية وإسلامية ترتبط بإسرائيل بعلاقات رسمية أو غير رسمية، سارعت إلى إدانة جمهورية صوماليلاند بدل مراجعة مواقفها هي. ازدواجية المواقف العربية والإسلامية

من الصعب تجاهل التناقض الواضح في ردود الفعل العربية والإسلامية. دول لديها علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، أو تعاون أمني واقتصادي معها، ترفض بشدة أن تبحث جمهورية صوماليلاند عن مصلحتها الوطنية.

إذا كان التطبيع مقبولًا عندما يخدم مصالح الدول الكبرى، فلماذا يُدان عندما تسعى إليه دولة صغيرة تبحث عن الاعتراف مثل جمهورية صوماليلاند؟

هذا ليس دفاعًا عن إسرائيل، بل دعوة للاتساق في المواقف، واحترام حق الشعوب في اتخاذ قراراتها السيادية.

استقلال القرار السياسي في هرجيسا

ما يحسب لجمهورية صوماليلاند هو أنها لم ترهن قرارها السياسي لأي جهة. علاقاتها مع تايوان سابقًا، ثم مع إسرائيل، لم تكن نتيجة ضغوط، بل نتيجة قناعة بأن الانتظار لم يعد مجديًا.

الرئيس عبد الرحمن محمد عبد الله جعل الاعتراف الدولي أولوية وطنية، وتحرك بهدوء وواقعية، دون خطابات شعبوية أو تصعيد غير محسوب. وخلال سنة واحدة، تحقق أول اعتراف رسمي، وهو إنجاز سياسي لا يمكن إنكاره، حتى من قبل المعارضين.

اقتصاد محاصر وشعب صبور

غياب الاعتراف كان عقبة امام تقدم وتطور جمهورية صوماليلاند اذ يعني:

  • حرمان من القروض الدولية
  • ضعف الاستثمارات
  • فرص عمل محدودة
  • خدمات أقل من الطموح

ورغم ذلك، لم تنفجر صوماليلاند، ولم تصدر أزماتها، ولم تستخدم الهجرة أو الإرهاب كورقة ضغط. بل اختارت طريق الصبر والبناء الداخلي.

حسن الجوار بدل تصدير الأزمات

جمهورية صوماليلاند لم تكن يومًا مصدر تهديد لجيرانها. على العكس، انتهجت سياسة حسن الجوار، والتعاون الاقتصادي، والتهدئة، حتى مع الصومال نفسه.

وهذا السلوك يعكس نضجًا سياسيًا يستحق أن يُكافأ بالاعتراف، لا أن يُقابل بالتجاهل الدائم.

خلاصة القول

الاعتراف الإسرائيلي بجمهورية صوماليلاند ليس نهاية الطريق، لكنه بداية لكسر جدار الصمت الدولي. وهو رسالة واضحة مفادها أن الاعتراف لا يُمنح بالشعارات، بل يُنتزع بالواقع.

جمهورية صوماليلاند دولة قائمة بالفعل، بشعبها ومؤسساتها واستقرارها. والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: لماذا اعترفت إسرائيل؟
بل: لماذا تأخر الآخرون كل هذا الوقت؟

بقلم: عبد الكريم علي بارجيح